الخميس، 25 يناير 2024

عندما يضرب المعلم وينوب عن الشعب الهبنقة ( مقال)

عندما تسابق الأمين والمأمون أبناء الخليفة العباسي هارون الرشيد ذات يوم؛ لمّا أنهى معلمهما درسه، ونهض لينصرف، فركضا إلى نعليه، وتزاحما، وتشاجرا عليهما أيهما يحملهما، ويقدمهما للمعلم، إكراما له، وتقديرا لمكانته؛ ثم اتفقا على أن يحمل كل واحد منهما فردة من نعال المعلم ليقدمها له؛ أظهرا بذلك أدبا تاما، وصنعة حسنة، وهما أميران، وأبناء خليفة المسلمين؛ أيام عز الدولة الإسلامية، وهو الذي كان يقول للسحابة عند ما تمر من فوقه: أمطري حيث شئت فإن خراجك سيعود إلينا، الخليفة هارون الرشيد لم يفته المشهد؛ فلقد كان يرقبه دون شعور المعلم، أو حتى الأميران، وطبعا أعجبه ما رأى من ولديه، وأكبر صنيعهما، وفي اليوم الموالي سأل الخليفة هارون الرشيد معلم ولديه: من أعز الناس؟ أجابالمعلم: أنت يا أمير المؤمنين، أعزك الله، ومن أعز منك؟، قال الرشيد: بل أعز الناس من يتسابق ولدا أمير المؤمنين، ووليا عهده لتقديم الحذاء له وإلباسه إياه، وطبعا أصابت المعلم الرهبة، وظن أن الخليفة غاضب منه، وأنه سيعاقبه على ما حصل، ولكن الخليفة أقبل على إكرامه وأثنى عليه، وذلك تقديرا منه لفضل العلم، ومكانة المعلم الناصح الأمين. ومن أجمل ما قيل في هذا الموقف ذلك الكلام الطيب الذي ختم به الرشيد كلامه وهو يخاطب هذا المعلم فقال له: (لقد سرني ما قاما به، إن المرء لا يكبر عن ثلاث صفات :تواضعه لسلطانه، ولوالديه، ولمعلمه). لمّا كان المجتمع الإسلامي مجتمع قيم وأخلاق كانت هذه صفات أرفع بيت فيه، وهو البيت الذي يؤوي أكثر الشخصيات عزا ومهابة، وكان معلم الناس الخير يحظى بكريم العناية وفائق التقدير، ترسما لكلام المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( إن الله وملائكته وأهل السَّموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) الترمذي- صححه الألباني (صحيح الجامع). كان معلم الناس الخير يحظى بالتبجيل والإكرام، عرفانا منهم أنه الشمعة المضيئة التي تنير طريقهم في اللياليالداجيات، وأنه هو جسر العبور الآمن وقنطرة الاجتياز المُطَمْئِنَة، فنالوا بذلك فضل علمه، وتعلقوا بمعالِ الأمور، وهجروا سفسافها، فضمهم سمط الثريا، وتعلقوا بهافنالوا منالها. أما في يومنا هذا فقد تقهقرت تلك المحامد والأفضال، فذاع ضرب المعلمين، وتسيَّد المهرج، وبهت غير المخنث، وصار عقد الجمان محصورا في تمجيد فلان أو علاّن من طرف هؤلاء المهرجين والمخنثين؛ في صورة مقززة تعكس مستوى التشبع المادي المترف؛ قرين الفسق، عند من يتعاطون مع هذه الظواهر، وحقيقة الأمر أنه ينبئ بانحدار أخلاقي غير مسبوق، فباكورة الحديث اليوم في أغلب المجالس؛ تسليعٌ للقيم ،وتلاشٍ للأخلاق، واستجداء للنفع المادي على حساب بقية الفضيلة!. تصوروا معي أن يُضرب معلم، أو يهان من طرف إنسان واعٍ!، من طرف شخص سويٍ؛ ذي مكانة، أو له مهابة، مرتب في أي سلطة، أو خلاف ذلك، إنه مشهدٌ مخزٍ ومذل، ومهين للفاعل قبل المفعول.. علينا أن نتلافى شيئا من أنفسنا؛ فالأمم دون الأخلاق سراب، وبالدوس عليها يكون تشييدها خراب. إن الحالة التي وصلنا إليها من انحسار الأخلاق وارتكاس الفضيلة؛ تشي بعدمية مكنون من تصدر عنهم هذه الأفعال وعبثية هممهم.. ولقد صدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. وعطفا على ما تقدم؛ عطفا لا يقتضي المغايرة، بل يؤكد التشريك ويظهر الاقتران؛ ما أصبح يتضوع من نتانة البذاءات القادمة من قبة البرلمان، غرفة التشريع!، وعجيب أمر أصحاب التشريع اليوم؛ من ضاربٍ للملعم؛ وهو صانع العقول، ومهذب الأدمغة؛ إلى ناشرٍ للسفاهة وفحش القول، وخلاعة اللسان، وقبح البيان، فإذا كان بالإمكان أن يسلم موظف في الحكومة اليوم أو أي إنسان في هذه البلاد له علاقة بالهم العام؛ إلا من خرقات في التسيير إن وجدت، يسلم الوزير الأول الذي كان محل النقد الجارح للحياء هذا، الخادش للذوق السليم، وبعيدا عن السياسية؛ وبعيدا عن الاعتبارات اللونية المقيتة، والحسابات الطينية الفانية، فإنه يمكن القول أن الرجل بدل وصفه بساقط الكلام الذي صدر من (نائبة)، بل الأكيد؛ إذا قيل فيه أنه صِدقًا ينسق عمله الحكومي بطبيعة هادئة؛ عناوينها البارزة: صفر مشكلة مع الوزراء؛ صفر عداوة؛ والظاهر أن ذلك مرده عدم التدخل في صلاحيات الآخرين، وعدم الشطط في استخدام السلطة، والتخلي عن الحقد، والتحلي بالألفة، وإضفاء السكينة على المشهد العام، وما شهدنا إلا بما يشهد به كل من ينظر إلى مجريات الأمور برؤية حيادية. وختاما أحسن عنترة بن شداد حين قال: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب

انتظام الدروس حتى نهاية الشهر السادس

الخميس، 11 يناير 2024

المعهد التربوي الوطني: منعطف بين إدارتين( مقال)

قبل سبع سنوات وسبعة أشهر قرر مجلس الوزراء تكليف مدير جديد بتسيير شؤون المعهد التربوي الوطني؛ و ماكان هذا المدير إلا تلك الشخصية التربوية النادرة، والرجل الإداري المميز. لقد كان هذا التكليف في ظرف استثنائي بالغ الحساسية إذ كان هذا البيت التربوي العتيق في فترة سبات مردها الإهمال الذي طاله حتى وصل الأمر ببعض المدبرين للشأن التربوي أن طالبوا بإغلاقه وطمس آثاره في عداوة ظاهرة للعلم والمعرفة، ومعانقة قبيحة للجهل والفشل، فلا يعقل أن يستقيم عمود التعليم دون كتاب ناضج التأليف، ولا وجود لذلك في غير بيئته الفطرية التي يتبلور فيها ويتشكل ثم يولد وينضج؛ ولا يمكن لعاقل حتى وإن جهل أبجديات التربية والتعليم أن يتصور حصول ذلك في بيئة غير المعهد التربوي الوطني؛ لما يكتنز من طاقات التصور والإنتاج والتأليف والطباعة والنشر والمتابعة والمراجعة.. لقد كانت الأذرع الجهوية الضرورية لهذه المؤسسة الحيوية في هذه الفترة المظلمة عبارة عن أطلال لم تهيج أخيلة شاعر لأنها وجدت في زمن حديث الدرهم وصمت الكلمة، لكن هذا الأب المدير عمل على إعادة الروح والنشاط لهذه القلعة التربوية الحصينة بأهميتها وقيمتها عند ذووي الألباب والبصائر فكان صبورا هادئا، زارعا بعون الله معالي الأمور في نفوس طاقمه، تجاوز ونصح، وجه وأرشد، تبصر وتريث، كتم الغيظ؛ فنجا من خطر الوشاة، المقتاتين على تتبع العورات والعثرات، المنتفعين ظلما من كل ماهو غاد وآت. ولأن تعقل الإنسان وحلمه وأناته أمور لا تنكشف إلا عند الأزمات وارتداد الصدمات؛ ظهرت شخصية الرجل الهادئة دون إخلال، المتبصرة دون إهمال، فكان نعم المدير لمؤسسة بحجم وزارة، طاقما، ومسؤولية، وهنا مربط الفرس، وربع عزة.. وفي سبيل نوال الحقوق حاول المدير العام جاهدا إنصاف المديرين الجهويين ورفع الظلم عنهم في رواتبهم المتمثل في عدم حصولهم على نسبة 56% من راتبهم الشهري؛ إذ لا يتقاضون في الوقت الحالي أكثر من 44% من هذا الراتب الذي هو أحق المستحق، فهو المكافأة المالية المنصوصة في المرسوم رقم 106 الصادر سنة 1993 !! وللتذكير فإن هذه المشكلة ناتجة عن خطإ إجرائي سابق لم يصحح لحد الساعة؛ رغم جهود المدير العام المنصرف الذي بذل جهودا كبيرة أثمرت تفاعلا تاما من الوصايتين المالية والفنية أشفعت بمراسلات كان آخرها محضر لمجلس إدارة المعهد التربوي بخصوص تفاصيل هذه المكافآت التي وقع فيها هذا الخطأ. وفي مجال الرقابة والتفتيش حطت المفتشية العامة للدولة رحال خيرة المفتشين الشباب عندها وأمضوا فترة انتداب للتفتيش والتدقيق حددت بستة أشهر وزادوا عليها قرابة ستين يوما دون أن يجدوا ما يعكر صفو التسيير عندهم، وإنها لعملية تبطن شهادة بنزاهة المؤسسة؛ إذ لم يعهد أصلا أن يحصل التفتيش والمساءلة المالية في اغلب المؤسسات إلا وتبعتها اعتقالات وتجريد أو حبس وتفاهمات .. وكان مما يلزم أن تكرم هذه المؤسسة العتيقة بسد الثغرات وإكمال النواقص تشجيعا لها لمواصلة النهج القويم؛ فينصف من يعاني خللا في الراتب، وتستحدث ميزانيات جهوية؛ والتي كان عدم وجودها من الملاحظات السلبية وإن بصبغة شكلية؛ ثم تقتنى سيارات للخدمة لكون الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسة وممثلياتها في الداخل تتوقف على حمل المتاع وأي متاع، إنه أعز محمول وأفيد منقول، إنه المدرس الصامت، الكتاب المدرسي، الذي من خلاله نحدد ملامح الشخصية الإيجابية التي نريد، وبوصول محتواه إلى ذهن التلميذ تنجح أهداف المنظومة التربوية؛ إذا الخلل في من يقيم الأمور، ويوصل الحقوق، وليس في مكمن القيمة ولا في مكتنز العز والجدوائية. ونحن إذ نودع المدير العام السابق نستقبل في ذات الوقت المديرة العامة الجديدة الدكتورة الشابة التي نرجو لها كل التوفيق؛ فلإن كان المدير السابق كما اسلفنا بحق وحقيقة قامة تربوية رفيعة، وشخصية إدارية عميقة، فإن المديرة العامة الجديدة، الدكتورة، النشطة، كما يقول العارفون بها؛ كفاءة علمية، وشخصية شبابية محورية في التأثير بشهادة وطنية، وأجنبية؛ يتضح من أي حوار خاطف معها أنها ذات بديهة مركزة وكياسة محمودة، نرجو أن يكون لها كل ذلك دعامة معينة على تدبير وتسيير شؤون هذا المرفق التربوي الهام والمحوري.. والله من وراء القصد وهو سبحانه وحده الهادي إلى سبيل الرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة والسلام.